نادرة هي الفرص التي بتنا نسمع فيها اسم “طرابلس” من دون مرادفات “الاشتباك”، و”التفجيرات”،
و”الاقتتال الطائفي”. ولهذا السبب لا غيره باتت “عاصمة الشمال اللبناني” مربط خيل الصحافة الوافدة ـ بل والمحلية كذلك ـ كلّما احتاجت إلى تطعيم “مانشيتاتها” بالحبر الأحمر النازف في المدينة منذ سنوات.
صورة نمطية يحاول أهل المكان (الأدرى بشعابه) أن يطووا صفحتها وقد لاح لهم مؤخراً متنفس طال انتظاره. وهل أفضل من “معرض كتاب” لتصويب “القراءة”، وإعادة كتابة “المصيبة”؟
مئات من أبناء المدينة يتوافدون اليوم لا إلى مجلس عزاء، أو لإسعاف جرحى؛ وإنّما إلى “معرض الكتاب الأربعين”، في أجواء يسودها هدوء أمني نسبي (تخرقه بعض الطلقات التحذيرية للجيش من حين لآخر) إثر تنفيذ الأجهزة العسكريّة اللبنانية ما بات يُعرف بـ”الخطة الأمنيّة”.
رفوف أجنحة المعرض القليلة (تمتد على مساحة 20 ألف متر مربع) دونها الحواجز الأمنية والقواطع الحديدية التي “ترحب” بالزوار في طقس ثقافي لم يألفه رواد معارض الكتب الأخرى في عالمنا العربي أو خارجه. وفيما تبدو ممرات المعرض فارغة بعض الشيء ساعة يفتح أبوابه عند الرابعة عصرا؛ لكنّها سرعان ما تمتلئ تدريجيا حتى تبلغ ذروتها بعد خمس ساعات هي الفسحة المتاحة لـ”فيحاء” الكتاب هذا العام.
لدور النشر الطرابلسيّة القدح المعلّى بين المشاركين، لا لشيء، بل لانكفاء دور النشر العربية والدولية لأسباب تتعلق بأمن المدينة. إذ أنّ طرابلس بالكاد نفضت عنها مؤخراً فوضى الاحتراب بين منطقتي “جبل محسن” و”باب التبانة” اللتين تتجاذبهما أهواء سياسية متنافرة لا تقتصر على النزاع السياسي المحلي المستحكم، بل وتتصل أسبابها في السنوات الثلاث الأخيرة بأواصر وطيدة مع “الثورة” و”الإرهاب” في سوريا، بحسب التعريف المتناقض للطرفين لما يجري في البلد الجار والشقيق.
وحظي جناح “مكتبة السائح” في المعرض بحفاوة خاصة مردّها تعرض مبنى المكتبة الأساسي (هي الكبرى في طرابلس) لحريق متعمد أصابها بأضرار جسيمة بداية هذه السنة. قبل أن تتحول إلى مادة للتراشق الإعلامي بدل الإصرار على ضبط الجناة أسوة بالمطلوبين الأمنيين.
“
تبقى
مهمة اجتراح
“خطّة ثقافية”
للمدينة
ملقاة على عاتق مجتمع مدني أنهكته “المعارك”
“
و”الخير” موصول إلى جناح “دولة فلسطين” التي تكاد تكون مشاركتها الدليل الوحيد على وجود ضيوف غير لبنانيين في المعرض. فيما يشغل جناح عميد الأسرى اللبنانيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي يحيى سكاف بدوره حيزه الخاص في المعرض، كدليل إضافي على وجود نوع نفتقده هذه الأيام من المقاومة، أي المقاومة الثقافية.
تتجاوز معروضات أجنحة المعرض (مستمر حتى 13 من الشهر الجاري) الكتب والمنشورات إلى ألعاب الأطفال، والبضائع التركية. بل وثمة جناح خاص بـ”جهاز الدفاع المدني” التابع لأحد الأحزاب الدينية في المدينة. حيث يجد “القارئ” في متناوله ندوات ودورات تدريبيّة ومناورات لجهاز الإسعاف في الجمعيّة الطبيّة الإسلاميّة في الباحة الخارجيّة.
وفي مشهد مغاير؛ يتعالى صوت الموسيقى الغربية في زاوية أخرى حيث تقدم فرق شبابية طرابلسية أغاني “الراب” التي تتناول الوضع الإنساني والمعاشي في المدينة، وتعبر عن رفضها لمبدأ الحرب الذي كان سائداً.
ويشير رئيس جمعية الوفاق الثقافية وأحد القائمين على التنظيم رامز الفري لـ”العربي الجديد” إلى تخصيص إدارة المعرض لمساحة حرة للشباب سمتها “Hyde park” (أسوة بالحديقة اللندنية المفتوحة للنقاش الحر) إلى جانب نشاط حوالى 60 فعالية ثقافية موازية، من ندوات شعرية وأدبية إلى حفلات إنشاد صوفية.
تعود مدينة “العلم والعلماء” إلى “النوستاليجيا” المحفورة في مخيلات أهلها أيّام عزّها الثقافي الذي ما زالت آثاره ماثلة في البلدة القديمة (التي تفتقد لها بيروت مثلاً). وفيما ينشغل الأمنيون والعسكريون بحذر في رسم خطوط (وحدود) الخطة الأمنية العتيدة التي لا يعول كثيرون على دوامها ما لم تُوضع في إطار تصور معاشي واجتماعي وسياسي أشمل؛ تبقى مهمة اجتراح “خطّة ثقافية” للمدينة (كانت عاصمة للثقافة الإسلامية 2013) ملقاة على عاتق مجتمع مدني أنهكته الصولات والجولات العشرون الأخيرة لـ”معارك” لا اتفاق على اسم “الحرب” التي تُخاض في سبيلها.