بقوة، تطأ أقدام عشرات الشبان أرض معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس.
حماسٌ وفرحٌ وتوقٌ يظهر على وجوههم. يسيرون بسرعة هرباً من حرارة الشمس التي تلاحقهم. يقطعون أمتاراً كثيرة من البوابة الأساسية نحو باب الدخول إلى “معرض الكتاب الـ40”. يلهثون، يلتقطون أنفاسهم. ثم يدخلون بسعادة عارمة، كأنهم وجدوا ضالتهم بعد عناء بحث طويل.
داخل “معرض الكتاب” مشهد إستثنائي، حرمت منه طرابلس لسنوات. جموعٌ كثيرة من الناس، أبناء طرابلس وجوارها، وعدد من السياح أيضا! جوٌ من الراحة والإنفراج العام عكسه معرض الكتاب، الذي يوشك أن يشكل التظاهرة الثقافية الوحيدة التي تضمها الفيحاء سنوياً، لا سيما وأنه يأتي هذا العام بعد جولة مضنية من العنف، أرخت بثقلها على الطرابلسيين، وأحكمت الخناق على حياتهم وأرزاقهم.
تبدد خوف القيّمين على تنظيم معرض الكتاب، في ساعات الإفتتاح من اليوم الأول للمعرض. تلمسوا توق الطرابلسيين إلى أي نشاط ثقافي حضاري جامع، يخرجهم من عزلتهم ويساعدهم على الخروج من الشرنقة التي وضعوا داخلها قسرا. ولا يخفي رئيس الرابطة الثقافية في طرابلس رامز فري المعاناة التي تكبدها مع زملائه خلال التحضير للمعرض هذا العام. وقال “كانت الأيام العشرة الأولى صعبة جدا. سيطرت على طرابلس أجواء شحن طائفي ومذهبي، مع إندلاع الجولة الـ21 من المعارك، كان وضع المدينة مربكا وأهلها خائفين. لكننا أصرينا على إقامة المعرض، وكنا مقتنعين أنه لا يجوز الإستسلام”.
وتابع في حديث إلى “مختار” أنه “تم الإتصال بالمكاتب ودور النشر، وأبدوا إستعدادهم للمشاركة هذا العام مهما كانت الظروف، تشجعنا عندها وقمنا بكل ما يلزم للتحضير للمعرض وإنجاحه. ومع بداية تطبيق الخطة الأمنية، إرتاحت نفوس السكان، ونحن فوجئنا بنسبة الإقبال المرتفعة جداً على زيارة المعرض وشراء الكتب. وقد سجلت لدينا نسبة مرتفة من المبيع، تضاهي النسب في السنوات السابقة”.
إقتضت خطة معرض الكتاب هذا العام، تضمينه نشاطات ثقافية وترفيهية، وتخصيص مساحة أوسع فيه لمشاركة الجميعات والنوادي. قسمت قاعة المعرض إلى ثلاثة أقسام: ثلث للمكتبات وعرض الكتب وبيعها، وثلث للجامعات والمعاهد، وثلث للهيئات الإجتماعية والسفارات والنوادي والجمعيات الكشفية. الأمر الذي أيده البعض، وإنتقده البعض الآخر. في حين رده فري إلى “إقتصار دور النشر المشاركة في معرض الكتاب بالمحلية حصراً، في ظل غياب دور النشر اللبنانية والعربية، ما يؤدي إلى تقليص المساحة المخصصة للمكتبات”. وكشف فري أن “الكل يعمل جاهداً لجذب دور النشر اللبنانية والعربية وحثها على المشاركة في معرض طرابلس أسوة بالمعارض الأخرى، بدلاً من أن تكتفي بعرض كتب لها، داخل جناح إحدى المكتبات الطرابلسية. لكن المعلوم أن “ابن البلد” لا يزور طرابلس حتى لمجرد زيارة خاطفة، فكيف نطلب منه أن يشارك في المعرض في ظل أوضاع أمنية متردية؟”
في المقلب الأخر، خرج معرض الكتاب الـ40 عن إطاره التقليدي باستضافته عروضاً فنية مميزة لفتت أنظار الجميع. حيث رسم أعضاء فرقة موسيقى وأغاني الجاز الطرابلسية البهجة على وجوه رواد المعرض. إعتلى هؤلاء خشبة المسرح في الباحة الخارجية من معرض رشيد كرامي الدولي، وأطلقوا العنان لموسيقاهم حتى تمايل الجميع على أنغامها. وفي الداخل، أسر “كورال الفيحاء” قلوب مستمعيه. وجذبت فرق الكشاف، الصغار والكبار إلى مشاهدة عروضها. وعليه، أشار فري إلى أن “المعرض يضم هذا العام نحو 60 نشاطاً ثقافياً، وحوالي 30 توقيعاً لكتب حديثة الإصدار”.
مجدداً، أثبت الطرابلسيون أن إرادة الحياة لديهم أقوى من إرادة الموت. وما إن رحل طيف الحرب عن مدينتهم حتى تداعوا للمشاركة في المهرجان الثقافي المتمثل بمعرض الكتاب الـ40، الذي تضمه الفيحاء يومياً لغاية 13 من الجاري.